بقلم/ الوردي محمد
لا تعقيد في اختيار الألفاظ والعبارات إن أردت سلوك طريق سهل بلا شوك حاد، والأفضل تبسيط الأمور إلى أقصى حد حتى يُدرك غيرُك ما تريدُ أن تخفيه أو أن تموه به درءا لخجل مرتقب. ورغم هذا التأنيب الطوعي يقف المعني بالأمر عاجزا مرة أخرى عن إيجاد ما يمكن أن يُدرج ضمن شعار السهل الممتنع. قد يكون منافقا وهو يحافظ على نفس العبارات والإيقاع المتشابك الخيوط طلبا للمدح وإرجاعا للاعتبار المفقود منذ البداية، بيد أنه يجزم خلو قاموسه من كل ما قل ودل.
ينتظر لدقائق قد تتجاوز أحيانا الثلاثين من دون أن يُركب جملة مفيدة، حتى يَشعر أنه أحقر الذين اختاروا السير في درب العلم ليستحضر للتو مقولة : "إن أول خطوة في الأمية هي الخروج من الكلية" . يحدث له هذا قبل أن يركن لهنيهات انفرادية يتدفق فيها الألم من لسانه ويُعصر حروفا تعبر عن فصاحة تُعيد كل شيء إلى منبع الطمأنينة المفقودة منذ أن ارتبطت سمعته بين أفراد عائلته بالتحصيل العلمي ولاشيء غير ذلك، كان حينئذ يلعب دور الطالب النجيب الذي سيمثل اسم عائلته في إحدى الوظائف بمجرد حصوله على شهادة الماستر، فإذا بالرياح جرت بما لا تشتهي السفينة التي كانت ستقله إلى بر إرجاع الاعتبار، قبل أن تجبرها بوصلة الأقدار لسلوك دروب وأزقة وساحات العاصمة.
لم يكن المعني بالأمر مُدركا لحجم المسؤولية التي ستلقى على عاتقه في شوارع الرباط مع من كانوا إلى عهد قريب زملاء له تحت سقف حجرة درس واحدة، رفقة من ستجمعهم بهم الأقدار ضمن مجموعة الصمود. تردد قليلا عندها تذكر صورة أمه التي لم يُرْجِع لها إلى حدود هذه الثانية بصيص فضلها عليه، انهال عليه ضميره بضربات مؤلمة أوشكت أن تحوله إلى مكوك طائر تواق للتعبير عن حرية طالما كبلتها قيود التدجين. حزم حقائبه وامتط القطار والوجهة هذه المرة العاصمة الرباط. لا أحد من أفراد عائلته كان يراهن على هذا الاختيار، فَـسر فلم يُـقـنِـع أحدا وعـَلـل دون أن يُـفلح في إسقاط جدار من نعوت التشفي من جانب والشفقة من جانب آخر، أحس وكأنه كان يردد على مسامعهم " خدعتكم أيها المراهنون".
أدرك أن الأمر في تصورهم "الجاهز" كان يتعلق بخدعة موقوتة، وبقناع طالما تلون بلون البياض الأكاديمي، إلى أن صار قناعا أخضرا مبصوما بشجرة صمود بيضاء، فبدا لهم هذه المرة بثوبه الجديد كنسر كاسر تحول في رمش العين إلى عاطل متابَع.
غير أن ذلك لم يكن ليثني عزمه عن اختيار طريق النضال الممزوج بإيمان عدالة المطلب المدفوع بتناقضات الذات الفائرة، التي صارت كبركان خامد سرعان ما سيقذف صهارته لتسيح فوق الشوارع والأرصفة وملتقيات الطرق. صمود ورَكْـدٌ بنكهة الكر والفر وحناجر بُحت عسى أن يَلـْتـفِت مُـلـتفِتٌ لما يجري في عاصمة تبدو من المحيط وكأنها كنه الداء ومكمن جرح غائر قد لا يندمل.
من المؤكد أن حلم كل أسرة يكمن في حصول أبنائها على شغل محترم، يعوض لها بعض ما تكبدته من عناء مادي ومعنوي، والغريب في الآن ذاته أن يصطدم أفراد هذه الأسرة عند رؤية هراوات الجهاز تنهال على رؤوس وأجسام فلذات أكبادها بالضرب واللكم والرفس، لا لشيء إلا لأنهم يطالبون بحقهم المشروع. مشاهد وصور مباشرة طالما حركت مشاعر المارة وقارئي اللطيف، قبل أن تُعرض مُسجلة على شبكة الإنترنيت فيكون وقعها مزلزلا لأمهات تُعصر أكبادها، وآباء تُـدمى قلوبهم. إلى حد دفع بعضهم إلى طرح سؤال غير منطقي: هل من يضرب أبناءنا بهذه الطريقة هم مغاربة مثلنا؟
مشاعر تعجز العبارات عن وصف تفاصيلها بدقة، تلك التي يتقاسمها الأطر فيما بينهم ومع أسرهم، ومهما بلغت الاختلافات والتفاوتات فلن تصل حد هدم بُرج المعاناة الذي سيبقى شعارا بارزا يؤثث سجل ذكريات كل عاطل صامد باحث عن كرامة الشغل المختزل - مجازا- في تفادي كومة من العصي المختلفة الأشكال، ومواجهة تناقضات حُزم من أوراق متجعدة نلمح في طرف منها عبارة "تجاهل" تفوح منها رائحة تُندر بمستقبل مبهم يشجع على التراخي والاكتفاء بروتينية ترديد الشعارات وكفى.
ابتعد وإلا...؟ عبارة طالما رددها رجال الجهاز على مسمع الأطر. كن لطيفا وانتظر: هو شعار كل مسؤول ماكر يعرف من أين تُـؤكل الكتف، وبين اللطف والانتظار ستمل نفسك التي ستـُفـقِـدُك الإدراك والقدرة على وضع النقط على الحروف، المهم عندهم هو نعومة الأظافر والأهم ركونك وركودك المفضي ليأس مزن.
والرهان اليوم تجديد الطاقات الداخلية وحشد الأحاسيس لمواجهة أي منزلق للإحباط أوثني للعزم، مهما بلغت درجات المعاناة والتناقضات. يجب عليك أيها الإطار أن تحيي الأمل من جديد وأن تـُنـقب عليه في أعماق أعماقك وتستنبطه، وإن عجزت فكرر المحاولة إلى أن تجد القناة التي تربط كُـنهك بلسانك الذي سيطاوعك إذاك لترديد شعار: أنا مغربي أنا بالهوية والسلالة * استحالة استحالة نركع أنا للعاطلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق